حالة تمدد ..!!
مع إشراقة طقوس العيد.. ينكمش المجتمع السوداني ويتمدد في طرفين متوازين.. يتمدد في سعة التسامح الاجتماعي وأفق التلاقي والتصافي النفسي.. داخل الأسرة وخارجها.. وينكمش في إحساسه بالوطن.. وإلفة الإنتماء إليه..
هذه الحالة – تزامن الإنكماش مع التمدد - ينتج عنها انفصام في الشخصية الوطنية السودانية.. فيبدو الإنسان السوداني منفتحاً ولوفاً منسجماً في آن.. وكاسحاً في غضبه متضجراً منفعلاً سريع الإشتعال في ذات الآن..
يحتضن السوداني جاره في حرارة.. ويصافح كل من يقابله يوم العيد بإلفة مطرزة بالكلمات الطيبات التي تدعو للمحبة والسلام.. لكن ذات هذا الإنسان مفعم في دواخله بحالة تنافر طاغية لكثير من مفردات الإنتماء الوطني .. مثلاً.. متضجر من حاله التي يعيشها تحت كنف أى سلطة.. من سلطة الحي إلى سلطة المحلية إلى سلطة الولاية إلى سلطة الحكومة الإتحادية.. ويزفر من أنفاسه ما يؤكد دائماً أنه تحت كل هذه السلطات بـ"وضع اليد".. يد الأقوى في يد الأضعف.. وأن ليس للضعيف إلا الخضوع أو التمرد.. وأن العلاقة مع "الوطن" علاقة اضطرار.. قدر محتوم الهرب منه أمل وطموح.. إلى أي مكان ولو كانت "إسرائيل"..
لماذا لا نطور حالة إنسان سوداني منسجم في مساريه.. الخاص والعام.. قادر على الإحساس بحالة كونه "سوداني" مرتبط بوطن وبلد بنفس عنفوان إحساسه بالعائلة والأسرة وربما القبيلة..؟؟
ذلك أمر يتطلب خطاب وطني جديد.. يدرك كيف يصنع الإنسجام النفسي للمواطن في وطنه.. خطاب ليس كله بمفردات شفهية مبثوثة في الهواء الطلق.. بل غالبه بسلوك ومنهج تفكير حصيف..
وحتى لا يبدو الأمر في نظر القاريء "تنظير" وأفكار ليس لها ساقين تمشي بها في الحياة.. سأضرب مثلا واحداً عملياً..!!
الخدمة المدنية .. هي في المفهوم الأشمل.. علاقة رأسية بين المواطن والدولة.. سواء كان المواطن موظفاً في سلكها أو كان متعاملاً مع خدماتها.. هذه الخدمة تحتاج لإعادة صياغة في مسارين.. الأول في هياكلها ومضمونها يحررها تماماً من حالة "تابع بمتبوع" .. عبد بسيد.. إلى حالة تفاعل مشتركة محكومة بمرجعية قانونية محايدة تتكافيء تحتها القوى الإدارية.. والثاني .. قيمة المواطن في نظر الخدمة المدنية.. أنه المالك المخدم لا المملوك الخادم..
"تحرير الخدمة المدنية" .. وتحييدها من مؤثرات سطوة السلطة..هو أول بند في الخطاب العام لإصلاح الذات الوطنية في ضمير المواطن..والتحرير ليس مجرد شكليات بروتكولية أو أُطر لائحية باردة.. هو منهج تفكير يفترض أن الإنسان قيمة حضارية ..أشبه بالمفاعل النووي.. يحتاج إلى أجهزة طرد مركزية لتخصيب وجدانه لتنطق منه الطاقة الـ(لا) محدودة ..
بدلاً من سودان جديد.. مطلوب إنسان سوداني جديد..!!