الأحد، 22 فبراير 2009

22 فبراير 2009 .. عاد الحبيب..!!


عاد الحبيب ..!!


(عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام على وجه التحديد، كنت خلالها أتعلم في أوروبا. تعلمت الكثير، وغاب عني الكثير، لكن تلك قصة أخرى).تلك هي مقدمة رواية "موسم الهجرة للشمال" .. المقدمة الشهيرة التي يكاد يحفظها عن ظهر قلب الكثيرون.. فيها أسلوب الخطاب (الإذاعي) الذي شب عليه الطيب صالح.. (عدت إلى أهلي ياسادتي..) .. لكن (غيبة طويلة) التي قاله الراوي عنها .. حدد عدد سنواتها بكل دقة بأنها (سبعة أعوام على وجه التحديد) .. تُرى كم غاب الطيب صالح عن بلده من السنين.. أضعاف أضعاف هذه السبعة التي عدها (غيبة طويلة)..
الطيب صالح.. لو كان من نسل أي بلد آخر .. ربما لما احتاج أن يبعد عن بلده سبعة أيام.. لأن البلاد التي (تموت من البرد حيتانها) أو حتى تلك التي (لا) تموت من البرد حيتانها.. تدرك أنه في كل حقبة من الزمان يظهر من بين أهليها عبقري.. وتدرك أن قيمة العبقري لبلده لا تتأكد إلا بنسبة بلده اليه .. فتجعل من ذلك همها .. أن تؤكد انتساب بنيها العباقرة إليها..لا يمكن لبلد ينتمي اليه – مثلاً – أحمد شوقي أن لا يظل فيه الا تحت وظأة ظرف قاهر.. ولا العقاد ولا طه حسين .. ولا أم كلثوم .. ولا .. ولا .. عشرات من الخالدين بإبداعهم.. لكن في المقابل.. هنا في السودان يكاد جيل كامل .. بل بضعة أجيال.. لا تعرف حتى مجرد من هو الطيب صالح..
عندما قابلته أول مرة في لندن عام 2000.. عدت إلى السودان فكتبت عنه مقالين طويلين .. ثم أجريت استبياناً مكتوباً على شرائح من الشباب.. خاصة في الجامعات.. وكان أهم سؤال فيه.. من هو الطيب صالح.. الغالبية الكاسحة فشلت تماماً في العثور عليه..
و ليست تلك مشكلة الطيب صالح.. فهو نجم ساطع حيثما ذهب.. لكنها بالتأكيد مشكلة وطن أن يتعامل مع الطيب صالح.. وكأنما في البلاد قبيلة كاملة مثله.. كتبوا وأبدعوا واشتهروا في الكون بكل لغاته..الأوطان تجتهد في إنجاب العباقرة.. فإذا جاد الزمان لها بواحد.. بالغت في الاحتفاء به.. أسبغت عليه الألقاب.. مصر سمت شوقي أمير الشعراء.. وحافظ إبراهيم شاعر النيل.. وطه حسين عميد الأدب العربي.. وأم كلثوم كوكب الشرق.. اهرامات تخلد بلد الأهرامات.. لكن أنظر حولك في سوداننا المثير للدهشة..عبقري مثل عبد الله الطيب.. انتقل الى الرفيق الأعلى ورجل المرور أمام جامعة الخرطوم ربما لا يعرفه.. وهو عالم لن يجود الزمان بمثله ربما لقرون.. الطيب صالح.. هبة الخيال والرواية .. وهو سوداني حتى النخاع مترع بتراثه وطعمه.. ربما تفاجأ كثيرون في العالم المتحضر بأنه سوداني.. وربما لم يكتشفوا ذلك الا حينما أزفت ساعة الغروب فولى الطيب صالح وجهه شطر السودان ليبقى خالداً تحت ترابه..
اللهم أرحم الطيب صالح وأسبغ عليه نعمة القبول والرضوان..

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

الأخ الفاضل الأستاذ عثمان ميرغني المحترم

مواسم الهجرة والتغريد خارج السرب: تداعيات الترف الأدبي والأبراج العاجية!

كان الشعار الذي طُرح في لحظات التحول الكبير، هو شعار "علموا أبناءكم الرماية والسباحة و ركوب الخيل" . ذلك الشعار حمل في مضامينه و دلالاته المشروع الحضاري العربي المتكامل في وقت مبكر، حيث تيقنت الأمة حتمية دورها التأريخي في المساهمة في بناء الحضارة الإنسانية و ترسيخ مبادىء الحكم الراشد، مدفوعة بعقيدة تجذرت في النفوس ولقيت القبول الكاسح و انتشرت في جميع الأصقاع. فالرماية و السباحة وركوب الخيل بمدلولاتها الواسعة كانت ممارسات يومية لشباب الأمة وشعراؤها وأدباؤها وحكماؤها الأفذاذ الذين كتبوا بمدادهم تاريخ أمتهم العريقة بما رفدوها به من أدب رفيع وشعر عبقري وعلوم كانت هي أساس النهضة الأوربية الحديثة.

ما حدث بعد ذلك يدخل في أبواب عدة ليس هنا مجالها!

بين يدي مجموعة من الكتب المدرسية المعدة لطلاب مدارس الأساس ببعض الدول الناطقة بالإنجليزية بالولايات المتحدة و إنجلترا و ربما غيرها من بلدان العالم. هذه الكتب تنشرها مؤسسة "هاركورت بريس" الأمريكية و تحمل السلسلة اسم: "كنوز الأدب". و تستهدف هذه الكتب المستويات المختلفة للسلم التعليمي في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان الناطقة باللغة. وتضم هذه المجموعة عدداً كبيراً من روائع أدب الأطفال من قصص، و شعر كتبت بأسلوب السهل الممتنع، وتعرض حكم وخبرات كتاب أفذاذ، وزينت المجموعة برسومات شيقة من لدن فنانين تشكليين مستنيرين إنشغلوا جميعاً بأدب الأطفال و سجلوا اللحظة بريشة فنان حتى لكأنك تعتقد أن ما تراه ليس بالرسم اليدوي بل من عمل آلة تصوير بديعة.

لذلك ليس عجباً أن نقرأ في كتب التأريخ أن الحكومة البريطانية آنذاك- وفي خواتيم الحرب العالمية الثانية وعندما إشتد أوار الحرب، و باتت جيوش هتلر تدق على أبواب لندن- أصدرت أمراً بترحيل الآلاف من الأطفال الإنجليز ممن هم في السنوات المبكرة، ذكوراً و إناثا،ً إلى كندا، البعيدة عن مسرح الحرب، سعياً للحفاظ على الجنس الإنجليزي من الإنقراض!

ولقد ضاع وقت ثمين من الأمة و لم تحصد شيئاً من إجترارها لتراثها عندما جير هذا الإرث الثري برسم الأبراج العاجية في كل مكان من وطننا العربي، فابتلت الأمة فإصبحت أمتين: أمة تسكن نظاماً مخملياً ابتدع لنفسه لغة خاصة به يتسلى بالإحاجي والقصص و ابتداع الشخصيات الوهمية التي بالغوا في رسم مفرداتها و تصويرها: و أمة أمية لا تقرأ و لا تكتب، فحول ذلك النظام الأمة برمتها إلى أمة منقسمة إجتماعياُ و ثقافياً وإقتصادياً.

و لن يفيد تحويل مثل هذه الأعمال "الأدبية" إلى دراما إذاعية للملايين من أبناء الأمةالأميين و البسطاءالذين همشوا إلى الأطراف في الأرياف والقرى النائية والذين يستمعون إلى المذياع علهم يجدون فيه ما يفك طلاسم الحياة الجديدة التي يعيشونها و فك شفرات غموضها و الإنتقال إلى المستقبل، لن يفيد ذلك بشيء لأن الخطاب هو ذات الخطاب: لغة لا يفهمونها و مفاهيم لا يتفاعلون معها؛ وهي في جميع الأحوال أصبحت مفاهيم قديمة و لم تعد تلبي إحتياجات العصر و متطلبات المرحلة.

إن تأصيل الفكر و بالتالي تأصيل الأدب هدفه النهوض بالأمة و شحذ الهمم؛ و لن يتسنى هذا المقصد بالأحاجي و لن يفيد الأمة حصول هذا الأديب أو ذاك على عشرات الجوائز العالمية لأن الهدف الأساسي من الثقافة والعلوم و الأدب هو تنشئة العقول القادرة على التعامل مع معطيات العصر و التفاعل معها، و يبدأ ذلك من النقطة المنطقية و هو أدب الطفال وبلغتهم. و يبدأ ذلك من أولى درجات السلم أي من مدارس الأساس، و إذ يجب تحويل كنوز الأدب العربي إلى أدب للصغار كما فعلت بقية الأمم بآدابها.

{ليس من ذكرت}، سيدي، فقط هو الذي يعيش خارج السرب، بل يشاركه في ذلك الملايين من شبابنا و أطفالنا وفي جميع المستويات التعليمية؛ الذين حرموا من الإستفادة من إرثنا العظيم الذي جيرته النخبة باسمها و لم يجد هولاء بكل أسف الملاذ إلا في هواتفهم النقالة والفضائيات الرخيصة يقطعون بهاالوقت فتتقطع أوصال الأمة.





زهير يوسف مصطفى عثمان
المعهد الإسلامي للترجمة
الخرطوم
24 فبراير 2009