الخميس، 2 أكتوبر 2008

(صُنع في السودان) ..
وطن ضجرت منه المآسي..!!
(3)



قلت لكم في الحلقتين السابقتين .. أن أزمة دافور هي من صميم (نأكل مما نزرع ) .. قميص زُرع قطنه ونسج غزله في السودان.. و الثمار المرة التي نجنيها اليوم هي حصاد غرسنا.. و ما كان للعقلية التي أدارت وانفردت بالأزمة أن تحصل إلا مثل هذه النتائج الكارثية..


منهج الكبوة ..!!



عندما قفزت الحركة الإسلامية إلى سُدة الحكم في فجر الثلاثين من يونيو عام 1989.. كانت حركة زاخرة بقوة الدفع العضوية والتنظيمية.. وظهر ذلك جلياً من قدرتها على تدبير الإنقلاب بكل يسر وسلالة .. ثم إمساكها القوى من أول يوم بمقود الدولة بلا ارتجاف..
لكن من أول لحظة الطلق كان واضحاً خلل منهج التفكير..!!
تخيرت الحركة الإسلامية أفضل وأخلص عناصرها التنظيمية ودفعت بهم إلى الأجهزة الأمنية والدفاعية.. بحجة تأمين الدولة.. والبقية الباقية من المخلصين شجعتهم على الإنخراط في الدفاع الشعبي والتفرغ للعمل العسكري الطوعي في أحراش الجنوب.. بعيداً عن المركز..
وتُركت الساحة السياسية في المركز مأهولة بمراكز القوى المشغولة بالتكتيك القصير المدى.. ومدججة بالأعذار التي تسمح بالتغاضي عن المباديء في سبيل الأهداف..على ذمة الغاية تبرر الوسيلة..
كان الخلل في التوازن واضحا كالشمس..
أجهزة أمنية ودفاعية قوية اكتسبت خبرة بسرعة وأجادت عملها للدرجة التي وقف فيها السودان وحيدا أمام عدوان ثلاثي شنته يوغندا واثيوبيا وارتريا في نفس اللحظة .. على حدود جغرافية تمتد لألاف الكيلومترات.. وتحت وطأة حصار عسكري مخيف يمنع تلقي السلاح من أى دولة.. ومع هذا كان سكان مدينة الخرطوم يتمتعون بدخول قاعة الصداقة للفرجة على مسرحية (المهرج) التي تقدمها فرقة الأصدقاء الكوميدية.. كانت الحياة في المدن السودانية تمضي وكأن ليس هناك حرباً أو أهوالاً تجري على امتداد حدود السودان.. بل لم تنقطع الكهرباء عن العاصمة في وقت كانت فيه قوات الحركة الشعبية تقترب كثيرا من خزان الروصيرص عماد الطاقة الكهربائية في السودان.



فيديو كليب الأزمة ..!!



وفي عز وأتون هذا الصراع استطاعت الكوادر الأمنية والعسكرية اختراق الحصار العسكري على السودان بتأسيس صناعة عسكرية متطورة أغنت عن الحاجة لاستيراد الأسلحة التقليدية..
ولكن .. وفي ذات الوقت الذي كانت فيه الكوادر الأمنية والعسكرية تسد ثغرتها بكل احكام.. كانت الكوادر السياسية تمارس أعتى صنوف التكالب على الكراسي وعطالة الذهن والترهل السياسي.. هذه مقاطع من فيديو كليب النشاط السياسي حينها:
· شاع التورط في تزوير الانتخابات النقابية والتنظيمات الطلابية وغيرها.. وضُربت تماماً مصداقية أى انتخابات على أى مستوى تجري في البلاد..
· ووصل الإمعان في الإستهانة بمثل هذا السقوط الأخلاقي السياسي أن تعرضت انتخابات تنظيم المؤتمر الوطني نفسه للتلاعب..المؤتمر الوطني الذي كان الحزب الواحد الحاكم المتحكم..
· وصار أصحاب الخبرات في التزوير أبطالاً في أعين الجهاز السياسي ..واُعتبر الأمر كله في (ميزان حسناتهم) .. وأنه محض (شطارة سياسية)..
· امتدت عطالة الذهن السياسي.. لتستخدم الأجهزة الأمنية في كبت وتحجيم أي نشاط سياسي مضاد حتى ولو كان سليماً معافي من أى رهق تآمري.. فالقابضون على مفاتيح المؤسسات السياسية يدركون أنهم (يرتاحون!) كلما (تعبت!) الأجهزة الأمنية ..
وهكذا.. تعطل الكسب السياسي تماماً.. ذات الحركة الإسلامية التي كانت تدعو أيام نظام الرئيس النميري إلى بسط الحريات.. وكانت تروج مقولة أن الدعوة هبة الحرية.. صارت اليوم لا تخشى مثل ما تخشى (الكلمة) و(الرأي) .. ليس لأنها لا تقدر على الرد والحوار..بل لأن (الكبت) أريح وأسهل .. طالما عُهد به إلى غير الجهاز السياسي المسترخي العاطل..
وجد حزب المؤتمر الوطني في نهاية المطاف.. أنه بدلاً من التنافس سياسياً.. في سوق مفتوح للسياسة.. فيصبح مطلوباً من الحزب الاجتهاد في التعامل مع الرأى العام .. وعرض بضاعته السياسية بأفضل ما تيسر.. أن يعرقل حركة الآخرين.. ويجمد المسرح السياسي كله ..لصالح الحزب..
ومن هنا نشأت الأزمات..
في كل المحكات كان آخر ما يقلق الضمير الحكومي رد الفعل الشعبي.. كما حدث في واقعة سقوط عمارة جامعة الرباط..
بعد سقوط العمارة الكبيرة وضياع أكثر من عشرة مليون دولار من أموال الشعب الفقير تحت انقاضها.. كونت الحكومة لجنة تحقيق تتبع لوزارة العدل.. يرأسها مولانا عبدالدائم زمرواي.. وكيل وزارة العدل.. خلصت اللجنة إلى قرارات تدين عدد من الروؤس الكبيرة في وزارة الداخلية على رأسهم الوزير نفسه.. وطالبت بمحاسبتهم سياسيا وجنائيا..
جرى بعد ذلك معالجة الأمر بصورة تمتص القضية وتجعل منها مجرد قصة درامية مثيرة.. اعلن وزير الداخلية استقالته.. على ذمة (استراحة محارب) .. ثم عاد بعد قليل مترقياً من وزير داخلية الى وزير دفاع.. ومن رتبة عسكرية الى رتبة أرفع..
كان واضحاً أن رد الفعل الشعبي أو الصورة الذهنية (Image) للحكم في خاطر المجتمع لا يعني الدولة في شيء..
في خضم أزمة دارفور و بعد صدور مذكرة توقيف المحكمة الجنائية الدولية ضد الوزير الاستاذ احمد هارون والمواطن على كوشيب.. ثارت اتهامات ضد وزير العدل.. ليست مجرد أقوايل أو مقالات في الصحف .. بل رفع الأستاذ بارود صندل المحامي مذكرة قانونية الى رئاسة الجمهورية يطب رفع الحصانة عن وزير العدل لاتهامه بالمطالبة برشوة ثلاثة مليون دولار من متهمين في قضايا غسيل الأموال.. وكان في يد الرئاسة أن تأمر بتشكيل لجنة تحقيق أو تقوم بأى رد فعل يفهم منه أنها تتعامل مع المنظور الشعبي للحكومة.. أو أضعف الإيمان أن تصدر بياناً تنفي فيه التهمة وترفضها كلياً..لكن كل ذلك لم يحدث..
وكانت النتيجة الحتمية أن هذه الواقعة بالتحديد صارت أحد أدلة وبنود الاتهام التي تضمنتها مذكرة لويس مورينو أوكامبو المدعي الدولي ضد السيد رئيس الجمهورية.



اعادة اكتشاف العجلة .!!



منهج الكبوة كان سافرا كالشمس في كل مناحي الحياة السياسية وما جاورها.. في غياب الفكرة التي تستهدف وطنا جديدا مبنى على المؤسسات وسيادة القانون.. افكرة التي تؤمن بأن درهم عمل أفضل من طن أقوال.. لا تلحقها أفعال..
وتحول (المشروع الإسلامي!!) الى مشروع بقاء على السلطة.. بأعتى فنون التكتيك والمحاورة والمداورة التي تمنح سنوات وشهور وأيام حكم أكثر.. رغم أن التاريخ برهن في أكثر من مناسبة ان مثل هذا النموذج من الدولة سهل قيامه..بنفس سهولة سقوطه.. على سبيل المثال لا الحصر..
شاه ايران .. محمد رضا بهلوي أسس دولة قوية الأنياب.. واستثمر مخزونها النفطي في تطوير كيانها ومعمارها ..
تحت حراسة أحد أعتى الأجهزة الأمنية التي عرفها التاريخ.. جهاز (السافاك).. لكن في أول هبة شعبية ذابت الدولة بجهازها الأمني وانهارت..

الرئيس الروماني شاوسسكو .. أستأمن نفسه داخل قلعة دولة محصنة بأشرس المؤسسات .. وفي لحظة ثار شعبه.. فأعدمه رميا بالرصاص في محكمة كانت زوجته تصرخ في القضاة أن يتأدبوا في حضرة رئيسهم..
صدام حسين.. من فرط قبضته كانت أجهزته تفض المظاهرات بالقنابل اليدوية.. وحقق رقما خرافيا في اعداد المعارضين الذين قتلوا.. زرع الخوف في قلب كل عراقي حتى ما صار الأب يستأمن
ابنه ولا الأخ يستأمن أخيه ولا الزوج زوجته.. وفي لحظة اندثر حكمه ..
أمثلة كثيرة.. كلها تبرهن على حقيقة واحدة..أن قوة الحكم والوطن في قوة لا رعب شعبه..
أواصل في الحلقة الرابعة ...باذن الله ..

ليست هناك تعليقات: