الثلاثاء، 21 أكتوبر 2008

مقال للدكتور عبد الوهاب الأفندي ..!!

هذا مقال رائع للغاية .. كتبه الدكتور عبد الوهاب الأفندي في صحيفة القدس العربي.. رأيت أن يحظى بمطالعتكم له .. بعد إذن الدكتور الأفندي ..
ولكم تقديري ..عثمان ميرغني..
دارفور في أكتوبر: 'مبادرة أهل السودان' وعبر التاريخ
د. عبدالوهاب الأفندي
21/10/2008

يصادف هذا اليوم (21 تشرين الاول/أكتوبر) الذكرى الرابعة والثلاثين لانتفاضة أكتوبر التي كانت ولا تزال حدثاً فريداً في تاريخ السودان والمنطقة العربية، باعتبارها أول ثورة مدنية ناجحة حققت الانتقال من حكم عسكري إلى حكم ديمقراطي كامل. وكانت شرارة الثورة قد انطلقت حين حاولت الحكومة أن تمنع بالقوة ندوة دعا لها اتحاد طلاب جامعة الخرطوم لمناقشة قضية الجنوب، مما أدى إلى مقتل طالب وجرح العشرات. وقد نتج عن هذا حالة من الغضب والفوران الشعبي وحركة دؤوبة من منظمات المجتمع المدني ثم الأحزاب السياسة وأخيراً (لا آخراً) الجيش، أجبرت الحكومة في النهاية على تقديم تنازلات أدت في النهاية إلى انهيارها.ولعل من المهم استذكار أن الندوة المذكورة كان قد دعي لها في إطار مبادرة حكومية، حيث كانت حكومة الفريق ابراهيم عبود شكلت في صيف عام 1964 لجنة لتقصي الحقائق في أزمة الجنوب بعد تصاعد الحرب بصورة مربكة، وأعلنت رفع الحظر عن حرية التعبير حتى تتيح للجنة الحوار بحرية مع من شاءت. وبناء عليه نظمت جمعية الدراسات الاجتماعية بجامعة القاهرة بالخرطوم ندوة شارك فيها عميد كلية القانون في جامعة الخرطوم وقتها الدكتور حسن الترابي الذي ربط تفاقم الأزمة بالسياسات القمعية للحكومة العسكرية، لأن الظلم يولد روح التمرد كما قال. وختم بالقول بأن الأزمة لن تحل ما لم تذهب الحكومة العسكرية.ردت الحكومة بحظر كل الندوات العلنية، ثم ثنت في 15 تشرين الاول/أكتوبر باعتقال اللجنة التنفيذية لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم بعد أن حاول الاتحاد تحدي قرار المنع. وبعد خلاف حاد داخل اللجنة الجديدة طرح الأمر للتصويت العام بين الطلاب الذين أقروا إقامة ندوة الحادي والعشرين من تشرين الاول (أكتوبر)، فكان ما كان.الملفت هنا هو أن حكومة عبود، وهي حكومة عسكرية حظرت الأحزاب وقيدت الإعلام، ارتأت في ذلك الصيف أن ترفع كل القيود عن حرية التعبير في قضية واحدة، وهي قضية الجنوب. وكان هذا إشارة إلى أنها من جهة وصلت إلى مرحلة من العجز عن مواجهة تداعيات الأزمة وأرادت أن تحيل أمرها إلى الشعب في خطوة 'ديمقراطية' معزولة، إذ لم تكن ترى أن عليها مشاورة الشعب في أي أمر آخر. بمعنى آخر أرادت الحكومة العسكرية القابضة التي تعتقد أنها أعلم من كل أفراد الشعب الآخرين مجتمعين ومتفرقين بكل قضايا الشأن العام، أرادت في هذه القضية بالذات التنصل من المسؤولية وإلقاءها على الشعب ليبت في أمرها ويتحمل عنها مسؤولية أي قرارات محرجة.ويبدو أن الحكومة كانت أيضاً تتوقع أن تصب الآراء المعبر عنها في مصلحتها. فمن جهة كانت تعتقد أن الرأي العام 'الشمالي' إما أنه سيدعم موقفها المتشدد، أو على الأقل يبرر لها أي تراجع محتمل. فالحوار هو بين 'شماليين' حول 'الآخر' المغيب، وعليه فإن الأمر لا خطر فيه. ولهذا كانت صدمة للحكومة رفض 'الشماليين' أن يلعبوا الدور المنوط بهم في هذه العملية، مما جعلها تتراجع إلى ديدنها في القمع، ولتؤكد من جديد أن صدرها حتى في هذه المسألة التي أشهرت فيها إفلاسها الفكري وخلو جعبتها من أي أفكار قادرة على حل المعضلة- فقط للأفكار التي تتفق مع مصالحها ومسلماتها المسبقة.هناك بلا شك الكثير من التشابه بين مبادرة حكومة الفريق عبود حول الجنوب، وحول مبادرة حكومة الفريق عمر حسن البشير المسماة بـ 'مبادرة أهل السودان' حول دارفور، والتي انعقدت جلسات التشاور حولها في الخرطوم وكنانة وما تزال منعقدة حتى كتابة هذه السطور. فمن جهة فإن الحكومة المسماة حكومة الوحدة الوطنية تنفرد بالأمر ولا تشاور أحداً (حتى وزير خارجيتها) في معظم الأمور، فلماذا تصبح دارفور وأزمتها المستعصية هي وحدها موضوع التشاور؟ هذا مع العلم بأن أي حكومة، سواء أكانت ديمقراطية أو لم تكن، هي مفوضة لاتخاذ كل ما تراه مناسباً لحل الأزمات، فلهذا تنصب الحكومات. فإن عجزت فلا بد من أن تنسحب ليحاول غيرها.مهما يكن، ورغم أن من الواضح أن المقصود من هذا التشاور هو التنصل من المسؤولية وإلقاؤها على الغير، فإن مشاورة الناس في بعض الأمر خير من عدم مشاورتهم إطلاقاً، وإن من واجب الجميع تبرئة الذمة بأن يمحضوا الحكومة النصح فيما طلبته، رغم أننا نعلم بالطبع أن الحكومة تستصحب في أمرها أن من جمعتهم للشورى لن يتقدموا باقتراحات تخرج عن نطاق المقبول لديها. إذ لو أن التجمع الحالي خرج بتوصية يطالب فيها بإقالة الحكومة أو تسليم المطلوبين إلى محكمة الجنايات الدولية، فمن نافلة القول أن الحكومة لن تتجاوب مع مثل هذه المطالب. فما الذي تتوقع الحكومة أن يسفر عنه هذا التشاور إذن؟ وما الذي سيسفر عنه حقاً؟من الواضح أن الحكومة تطمح أن يؤيد ملتقى الحوار مواقفها تجاه المجتمع الدولي وحركات دارفور، وبالتالي يعزز شرعيتها. وهي مثل حكومة عبود تتمنى أن تكسب الحسنيين: أن تحصل على تأييد شعبي واسع لبعض سياساتها المثيرة للجدل، أو أن تحصل على تبرير لتراجعها عن البعض الآخر. وفي الحالين تخلع المسؤولية على غيرها في تلك السياسات باعتبارها تنفذ الإرادة الشعبية. ولا يمنع هذا أنها تريد كذلك استثمار أي أفكار مفيدة قد يتطوع بها المتداولون، ترفد بها خزانتها الخاوية، وتستخدمها أيضاً باتجاه تعزيز سياساتها الحالية وتقوية موقفها السياسي. ومن المنتظر أن تحصل الحكومة على معظم ما تريده، وهو إن حدث لن يغير شيئاً في الأمر، لأن المشكلة ليست في تعزيز السياسات الحالية بل في تغييرها، وتغيير كثير من الأشخاص القائمين عليها، لأن هذه السياسات ومن رسموها ونفذوه هي وهم المشكلة، والتداوي بالتي كانت هي الداء على سنة أبي نواس رحمه الله ليس أحكم وسائل العلاج.وهذه مساهمتنا في مبادرة أهل السودان التي دعا القائمون عليها كل السودانيين لتزويدهم بآرائهم، وها نحن نفعل، فنقول إن البداية تكون باعتراف من تولوا المسؤولية المباشرة في خلق هذه الأزمة، ومن فشلوا في احتوائها، بخطئهم ومسؤوليتهم عن ورطة البلاد الحالية، وأن يتقدموا باستقالاتهم من مناصبهم، بحيث تتولى القيادة في الأجهزة العسكرية والأمنية والسياسية والإدارية المسؤولة مباشرة عن دارفور وجوه وقيادات جديدة قادرة على طرح أفكار مقبولة من أطراف النزاع، وعلى بناء الثقة في الحكومة في دارفور والسودان والعالم. بعد ذلك يمكن لهذه القيادات الجديدة أن تستعين بالمخلصين والقادرين من أبناء دارفور وأبناء السودان وما أكثرهم - لطرح أفكار جديدة وبناءة للتصدي للمشكلة.ولا بد أن أضيف هنا أننا، رغم تطوعنا بهذا النصح لوجه الله، نعرف من التجربة أن هذا النصح، وغيره مما سيقال في الملتقى لن يسمع له ما لم يكن موافقاً لهوى من نظموا الملتقى. وفي نفس الوقت فإننا لا نتوقع ونحن نتحدث هنا عن التشابه مع أحداث أكتوبر- أن يشعل ملتقى الحوار حول دارفور شرارة انتفاضة أخرى. ولا بد أن نضيف هنا أن ثورة أكتوبر لم تسهم كثيراً في حل قضية الجنوب رغم أن الأخيرة كانت الشرارة التي أشعلتها، وبالرغم من انعقاد ملتقى آخر في عام 1965، هو مؤتمر المائدة المستديرة الذي يتميز على الملتقى الحالي بأن مناصري حركة التمرد كانوا من بين شهوده. بل بالعكس، نجد أن الحرب في الجنوب تصاعدت بصورة أسوأ تحت الحكومة الديمقراطية. وقد تم التوصل إلى حل سلمي بعد توحد حركات التمرد في نهاية الستينات تحت قيادة الجنرال جوزيف لاغو (الذي استفاد من دعم إسرائيلي لفرض هيمنته على بقية فصائل التمرد) ووجود حكومة موالية للغرب الذي كان يدعم التمرد.الملتقى الحالي لن يساهم كثيراً في حل القضية، رغم أن التشاور مفيد من ناحية المبدأ، ولا يستبعد أن يثمر بعض الخير. ولكن الشورى قد تضر في بعض الأمر. على سبيل المثال، لو أن اتفاق نيفاشا طرح للتشاور قبل إبرامه لما أمكن التوصل إلى اتفاق حوله، كما أنه لو طرح على استفتاء بعد عقده لكان من المرجح أن ترفضه الغالبية. وأي مشاورات لا يمكن أن تكون بديلاً لاستراتيجية تفاوضية فعالة تؤدي إلى حل ترضاه أطراف النزاع. هناك درس آخر من أكتوبر لا يقل أهمية، وهو درس يهمله الكثيرون. هذا الدرس هو استراتيجية الانتقال إلى الديمقراطية من وضع غير ديمقراطي. ففي أكتوبر كما كان الحال بعد انتفاضة نيسان (أبريل) عام 1985 تم الانتقال إلى الديمقراطية بتدرج من وضع دكتاتوري إلى وضع بين بين، ثم إلى وضع انتقالي شبه ديمقراطي ثم إلى ديمقراطية كاملة. ففي أكتوبر كانت المرحلة الأولى حكومة انتقالية مع بقاء الفريق عبود على سدة الرئاسة، ثم استمرت تلك الحكومة بعد إجبار عبود على الاستقالة بعد أسبوعين، ثم أعقبت تلك بعد ثلاثة أشهر حكومة أخرى قادت البلاد إلى الانتخابات في نيسان (أبريل) عام 1965.
وفي نيسان (أبريل) عام 1985 قامت الحكومة الانتقالية مشاركة بين الجيش وقوى الانتفاضة، وتريث الناس عاماً قبل إجراء الانتخابات التي أعادت الديمقراطية.وجه الاختلاف الآخر بين الحال اليوم وحال البلاد في تشرين الاول/أكتوبر هو أننا نعيش اليوم سلفاً في مرحلة انتقالية، لأن اتفاقيات نيفاشا اشترطت قيام انتخابات حرة ونزيهة ومراقبة دولياً العام القادم، والاستعدادات لهذه الانتخابات تجري على قدم وساق. ولكن وجهة الانتقال القادم غير محددة، وآلياته غير واضحة. ذلك أن أهم ما يمكن أن يوفره الانتقال البناء هو آلية تعايش بين القوى المتنافرة، وحسم قضايا الصراع المتفجرة التي تهدد كل تحول ديمقراطي، وضمان تحييد الدولة في الصراعات السياسية بحيث لا تصبح مسألة الاستيلاء على الدولة مسألة حياة أو موت للحركات السياسية. ويتحقق هذا عندما تعقد صفقة تضمن للقوى القديمة مصالحها دون أن تحد من صلاحيات القوى الجديدة إن جاءت إلى السلطة. بمعنى آخر يكون تحول السلطة ليس مفتاحاً لسوق الآلاف إلى السجون ومصادرة الأموال، وربما تفجير صراع مسلح.هذا الأمر لا يبدو أنه تحقق، بل لا تزال الفجوة كبيرة بين القوى السياسية، وحتى تلك المشاركة في الحكم. وإذا كان المؤتمر الوطني الحاكم حالياً يتحكم بصورة شبه تامة في أجهزة الدولة الأمنية والبيروقراطية، ويهيمن على مقدرات الاقتصاد، وكان الشيء نفسه هو وضع الحركة الشعبية في الجنوب، فهل ينتظر إذا جاءت الانتخابات بحكومة جديدة أن يسلم هؤلاء ما بأيديهم من سلطة ومال ثم ينصرفوا إلى منازلهم شاكرين ومقدرين للناخبين؟ من يتخيل مثل هذا الأمر هو على قدر كبير من السذاجة والطيبة، لأن من ظل يقاتل فيقتل أو يقتل في سبيل السلطة عشرين عاماً لا يمكن أن يسلمها بسبب نتيجة انتخابية، ما لم يكن ذلك على أساس صفقة مسبقة تضمن له مكاسبه.وعليه فإذا كان هناك أمر يجب أن يشغل به أهل منتدى كنانة أنفسهم وقد تداعت فئات مهمة من النخبة إلى هناك - فهو أن يتداولوا حول ما يمكن أن يحدث بعد انتخابات العام القادم وكيف يمكن ترتيب انتقال سلس للسلطة مهما كانت نتيجة الانتخابات. ذلك أنني لا أعتقد أنهم سيصلون إلى حل لقضية دارفور في ملتقاهم ذاك، وقد يكون متفائلاً أكثر التفاؤل من يعتقد أن أي حل في دارفور سوف يتحقق قبل انتخابات الصيف القادم، اللهم إلا إذا كانت مداولات كنانة ستمنح غطاءً لتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى بدعوى أن 'أهل السودان' طلبوا ذلك.' كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن

هناك 3 تعليقات:

binladen يقول...

الاخ الكريم / عثمان ميرغني
السلام عليكم

(فهل ينتظر إذا جاءت الانتخابات بحكومة جديدة أن يسلم هؤلاء ما بأيديهم من سلطة ومال ثم ينصرفوا إلى منازلهم شاكرين ومقدرين للناخبين؟ من يتخيل مثل هذا الأمر هو على قدر كبير من السذاجة والطيبة)،
في هذه المواقف لا تتمنى ان تكون ساذجا ولا طيباً، والخطور في الامر ان كاتب المقال من الثقات العارفين.

غير معرف يقول...

شكراً أستاذ/ عثمان...على نقل هذا المقال المهم جداً للدكتور الأفندى ، خاصةً ونحن هنا نفتقد موقع (صحيفة القدس العربى) بسبب حظره..وأملنا أن يستمر مثل هذا العمل..مع أمنياتنا الصادقة لك بالتوفيق وأن تصبح هذه المدونة عن قريب مرجعاً توثيقياً جامعاً، ومنبراً مهماً، ومنتداً متميزاً يجمع شتات السودانيين بمختلف مشاربهم ورؤاهم المختلفة المتنوعة ، تتلاقح فيه أفكارهم واّراءهم وتطلعاتهم ، أمنياتنا لهذه المدونة الجادة أن تصبح منبراً للتحاور والتثاقف.

وشكراً عميقاً لدكتور الأفندى على هذا المقال الرائع، وهو كما عرفناه عن بعد قلماً صادقاً شفيفاً عميقاً رصيناً ، (مغموس) بحنكة ودراية كبيرين فى تربة الواقع السودانى الملئ بالوحل حتى النخاع، غارقاً فى تفاصيل التفاصيل ، مستخرجاً لنا أنجع الحلول..شكراً يا (أفندى) وتعظيم سلام.

Mo يقول...

I like the analysis of Dr Al Afandi. it sound logic and reasonable. my self i have doubts that the government would simple accept the results of free and fair election just like that. there is a lot of financial interest for some government members to continue the rule of NCP. they would not let go that easily